فصل: تفسير الآيات رقم (67- 68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏ربنا آمنا بما أنزلت‏}‏ يعني قال الحواريون بعد إشهاد عيسى عليهم بأنهم مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت يعني بكتابك الذي أنزلته على عيسى عليه السلام ‏{‏واتبعنا الرسول‏}‏ يعني عيسى ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ يعني الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق واتبعوا أمرك ونهيك فأثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين الذين سألوا الحواريون أن يكونوا معهم مزيد فضل عليهم فلهذا قال ابن عباس‏:‏ في قوله‏:‏ فاكتبنا مع الشاهدين أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم المخصوصون بتلك الفضيلة فإنهم يشهدون للرسل بالبلاغ وقيل‏:‏ مع الشاهدين يعني النبيين لأن كل نبي شاهد على أمته قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومكروا‏}‏ يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وأصل المكر صرف الغير عما يقصده بضرب من الحيلة وقيل‏:‏ هو السعي بالفساد في الخفية فأما مكرهم بعيسى فإنهم دبروا في قتله وهموا به وذاك أن عيسى عليه السلام بعد أن أخرجه قومه هو وأمه رجع مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة وأظهر رسالته إليهم فهموا بقتله والفتك به فلذلك مكرهم والمكر من الخلق الخبيث والخديعة والحيلة ‏{‏ومكر الله‏}‏ أي جازاهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته وقيل‏:‏ مكر الله استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يحتسب ومكر الله في هذه الاية خاصة هو إلقاء الشبه على صاحبهم الذي دلهم على عيسى حين أرادوا قتله حتى قتل قال ابن عباس أن عيسى عليه السلام استقبل رهطاً من اليهود فلما رأوه قالوا‏:‏ قد جاء الساحر ابن الساحر والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه، فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم ولعنهم فمسخوا خنازير فلما رأى ذلك يهوداً رأس اليهود وملكهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله عز وجل جبريل فأدخله خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله من تلك الروزنة وأمر يهودا ملك اليهود رجلاً من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة فيقتله ظنوا أنه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ إن اليهود طرقوا عيسى في بعض الليل ونصبوا له خشبة ليصلبوه عليها فأظلمت الأرض وأرسل الله عز وجل الملائكة فحالت بينهم وبينه فجمع عيسى عليه السلام الحواريين تلك الليلة وأوصاهم وقال‏:‏ ليكفر بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيره فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إلى اليهود وقال‏:‏ ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه، فلما دخل البيت الذي فيه المسيح ألقى الله شبه عيسى عليه ورفع الله عيسى عليه السلام وأخذ الذي دل عليه فقال‏:‏ أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب الذي ألقي عليه شبه عيسى جاءت مريم وامرأة أخرى كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون بدعوته فجعلتا تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى عليه السلام وقال‏:‏ على من تبكيان إن الله عز وجل قد رفعني ولم يصبني إلاّ خيرٌ وهذا شيء شبه لهم فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى أهبط إلى مريم المجدلانية وهو اسم موضع نسبت إليه فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله عز وجل إليها فاشتعل الجبل نوراً حين هبط فجمعت الحواريون فبثهم دعاة في الأرض ثم رفعه الله فتلك الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون تكلم كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ يعني وهو أفضل المجازين بالسيئة العقوبة‏.‏

وقال السدي‏:‏ إن اليهود حبست عيسى عليه السلام في بيت ومعه عشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم كان قد نافق ألقى عليه شبه فأخذ وقتل وصلب وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول فقال رجل منهم‏:‏ أنا يا نبي الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى ورفعه إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة الطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنساً ملكياً أرضياً سماوياً‏.‏ قال أهل التاريخ‏:‏ حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وولدته ببيت لحم من أرض أوري شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي‏}‏ اختلفوا في معنى التوفي هنا على طريقين‏:‏ فالطريق الأول أن الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير وذكروا في معناها وجوهاً‏:‏ الأول‏:‏ معناه أني قابضك ورافعك إلي من غير موت من قولهم توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وقبضته تاماً، والمقصود منه هنا أن لا يصل أعداؤه من اليهود إليه بقتل ولا غيره‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن المراد بالتوفي النوم ومنه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ والتي لم تمت في منامها فجعل النوم وفاة، وكان عيسى قد نام فرفعه الله وهو نائم لئلا يلحقه خوف، فمعنى الآية أني منيمك ورافعك إلى الوجه الثالث أن المراد بالتوفي حقيقة الموت، قال ابن عباس‏:‏ معناه أني مميتك قال وهب بن منبه‏:‏ إن الله توفى عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ثم رفعه إليه وقيل‏:‏ إن النصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه إليه‏.‏ الوجه الرابع‏:‏ أن الواو في قوله ورافعك إلي لا تفيد الترتيب والآية تدل على أن الله تعالى يفعل به ما ذكر فأما كيف يفعل‏؟‏ ومتى يفعل‏؟‏ فالأمر فيه موقوف على الدليل‏.‏ وقد ثبت في الحديث أن عيسى سينزل ويقتل الدجال وسنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏ الوجه الخامس‏:‏ قال أبو بكر الواسطي‏:‏ معناه أني متوفيك عن شهواتك وعن حظوظ نفسك ورافعك إلي ذلك أن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء صارت حالته حالة الملائكة في زوال الشهوة‏.‏ الوجه السادس‏:‏ أن معنى التوفي أخذ الشيء وافياً ولما علم الله تعالى أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله إليه هو روحه دون جسده كما زعمت النصارى أن المسيح رفع لاهوته يعني روحه وبقي في الأرض ناسوته يعني جسده فرد الله عليهم بقوله إني متوفيك ورافعك إلي فأخبر الله تعالى أنه رفع بتمامه إلى السماء بروحه وجسده جميعاً‏.‏ الطريق الثاني‏:‏ أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك إلى الأرض وقيل‏:‏ لبعضهم هل تجد نزول عيسى إلى الأرض في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم قوله تعالى وكهلاً وذلك لأنهم يكتهل في الدنيا وإنما معناه وكهلاً بعد نزوله من السماء‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد زاد» وفي رواية حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلاّ ليومنن به قبل موته وفي رواية كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم‏.‏

وفي رواية فأمكم منكم قال ابن أبي ذؤيب‏:‏ تدري ما أمكم منكم‏؟‏ قلت فأخبرني قال فأمكم كتاب ربكم عز وجل وبسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وفي إفراد مسلم من حديث النواس بن سمعان قال‏:‏ فبينما هما إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليس بيني وبينه يعني عيسى نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممضرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله الملل في زمانه كلها إلاّ الإسلام ويهلك المسيح الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» أخرجه أبو داود ونقل بعضهم أن عيسى عليه السلام يدفن في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوم أبو بكر وعمر يوم القيامة بين نبيين محمد وعيسى عليهما السلام‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومطهرك من الذين كفروا‏}‏ يعني مخرجك من بينهم ومنجيك ‏{‏وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة‏}‏ يعني وجاعل الذين اتبعوك في التوحيد وصدقوا قولك وهم أهل الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق الذين كفروا بالعز والنصر والغلبة بالحجة الظاهرة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الحواريين الذين اتبعوا عيسى على دينه وقيل‏:‏ هم النصارى فهم فوق اليهود وذلك لأن ملك اليهود قد ذهب ولم يبق لهم مملكة وملك والنصارى باق فعلى هذا القول يكون الاتباع بمعنى المحبة والادعاء لا اتباع الدين لأن النصارى وإن أظهروا متابعة عيسى عليه السلام فهم أشد مخالفة له وذلك أن عيسى عليه السلام لم يرض بما هم عليه من الشرك، والقول الأول هو الأصح لأن الذين اتبعوه هم الذين شهدوا له بأنه عبدالله ورسوله وكلمته وهم المسلمون وملكهم باق إلى يوم القيامة ‏{‏ثم إليَّ مرجعكم‏}‏ يعني يقول الله عز وجل‏:‏ إلي مرجع الفريقين في الآخرة الذين اتبعوا عيسى وصدقوا به والذين كفروا به ‏{‏فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏ يعني من الحق في أمر عيسى ثم بين ذلك الحكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين كفروا‏}‏ الذين جحدوا نبوة عيسى وخالفوا ملته وقالوا فيه ما قالوا من الباطل ووصفوه بما لا ينبغي من سائر اليهود والنصارى ‏{‏فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا‏}‏ يعني بالقتل والسبي والذلة وأخذ الجزية منهم ‏{‏والآخرة‏}‏ أي وأعذبهم في الآخرة بالنار ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ يعني ما نعين يمنعونهم من عذابنا ‏{‏وأما الذين آمنوا‏}‏ يعني بعيسى عليه السلام وصدقوا بنبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ يعني عملوا بما فرضت عليهم وشرعت لهم ‏{‏فيوفيهم أجورهم‏}‏ يعني جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء ‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏ أي لا يحب من ظلم غيره حقاً له أو وضع شيئاً في غير موضعه والمعنى أنه تعالى لا يرحمهم ولا يثني عليهم بجميل ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ يعني الذي ذكرته لك من أخبار عيسى وأمه مريم والحواريين وغير ذلك من القصص ‏{‏نتلوه عليك‏}‏ أي نخبرك به يا محمد على لسان جبريل، وإنما أضاف ما يتلوه جبريل عليه السلام إلى نفسه سبحانه تعالى لأنه من عنده وبأمره من غير تفاوت أصلاً فأضافه إليه ‏{‏من الآيات‏}‏ يعني من القرآن وقيل الآيات يعني العلامات الدالة على نبوتك يا محمد لأنها أخبار لا يعلمها إلاّ من يقرأ ويكتب أو نبي يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب فثبت أن ذلك من الوحي السماوي الذي أنزل عليك ‏{‏والذكر الحكيم‏}‏ أي المحكم الممنوع من الباطل قيل المراد من الذكر الحكيم القرآن لأنه حاكم يستفاد منه‏.‏ جميع الأحكام وقيل‏:‏ الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ الذي منه تنزلت جميع كتب الله على رسله وهو لوح من درة بيضاء معلق بالعرش‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب‏}‏ الاية‏.‏ أجمع أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في محاجة نصارى وفد نجران قال ابن عباس‏:‏ إن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كان فيهم السيد والعاقب فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما شأنك تذكر صاحبنا فقال من هو‏؟‏ قالوا‏:‏ عيسى تزعم أنه عبدالله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل إنه عبدالله فقالوا له‏:‏ فهل رأيت له مثلاً أو أنبئت به‏؟‏ ثم خرجوا من عنده فجاءه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ قل لهم إذا أتوك إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ إنه عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا‏:‏ يا محمد هل رأيت إنساناً قط من غير أب‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله‏}‏ أي في الخلق والإنشاء في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم في كونه خلقه من تراب من غير أب وأم، ومعنى الاية أن صفة خلق عيسى من غير أب كصفة آدم في كونه خلقه من تراب لا من أب وأم، فمن أقر بأن الله خلق آدم من التراب اليابس وهو أبلغ في القدرة، فلم لا يقر بأن الله خلق عيسى من مريم من غير أب بل الشأن في خلق آدم أعجب وأغرب وتم الكلام عند قوله كمثل آدم لأنه تشبيه كامل ثم قال تعالى‏:‏ خلقه من تراب فهو خير مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم في كونه خلقه من تراب أي قدره جسداً من طين ‏{‏ثم قال له كن‏}‏ أي أنشأه خلقاً بالكلمة، وكذلك عيسى أنشأه خلقاً بالكلمة فعلى هذا القول ذكروا في الآية إشكالاً وهو أنه تعالى قال‏:‏ خلقه من تراب ثم قال له‏:‏ كن فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قوله كن ولا تكوين بعد الخلق‏.‏

وأجيب عن هذا الإشكال بأن الله تعالى أخبر بأنه خلقه من تراب لا من ذكر وأنثى ثم ابتداء خبراً آخر‏.‏ فقال‏:‏ إني أخبركم أيضاً اني قلت له كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى خلقه جسداً من تراب ثم قال له‏:‏ كن بشراً فكان يصح النظم وقيل‏:‏ الضمير في قوله كن يرجع إلى عيسى عليه السلام وعلى هذا إشكال في الآية‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف شبه عيسى عليه السلام بآدم عليه السلام وقد وجد عيسى من غير أب ووجد آدم من غير أب ولا أم‏.‏ قلت‏:‏ هو مثله في أحد الطرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، ولأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ولأنه شبه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران لأن الوجود من غير أب وأم أغرب في العادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه‏.‏ وحكي أن بعض العلماء أسر في بلاد الروم فقال لهم‏:‏ لم تعبدون عيسى‏؟‏ قالوا‏:‏ لأنه لا أب له قال‏:‏ فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم قالوا‏:‏ وكان يحيي الموتى فقال‏:‏ جزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وأحيا حزقيل أربعة آلاف‏:‏ قالوا‏:‏ وكان يبرئ الأكمه والأبرص قال‏:‏ فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليماً وقوله كن ‏{‏فيكون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه كن فكان فأريد بالمستقيل الماضي وقيل‏:‏ معناه ثم قال له‏:‏ كن وأعلم يا محمد أن قال له ربك كن فإنه يكون لا محالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏الحق من ربك‏}‏ الذي أخبرتك به من تمثيل عيسى بآدم هو الحق من ربك ‏{‏فلا تكن من الممترين‏}‏ أي من الشاكين إن ذلك كذلك وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏ والمعنى فلا تكن من الممترين يا أيها السامع كائناً من كان لهذا التمثيل والبرهان الذي ذكر فهو من باب التهيج لزيادة الثبات والطمأنينة‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فمن حاجك فيه‏}‏ أي فمن جاد لك في عيسى وقيل في الحق ‏{‏من بعد ما جاءك من العلم‏}‏ يعني بأن عيسى عبدالله ورسوله ‏{‏فقل تعالوا‏}‏ أي هلموا والمراد منه المجيء وأصله من العلو بالرأي والعزم كما تقول تعالى نتفكر هذه المسألة ‏{‏ندع أبناءنا وأبناءكم‏}‏ أي يدع كل منا ومنكم إبناءه ‏{‏ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم‏}‏ قيل‏:‏ أراد بالأبناء الحسن والحسين وبالنساء فاطمة وبالنفس صلى الله عليه وسلم وعلياً رضي الله عنه وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين ‏{‏ثم نبتهل‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نتضرع في الدعاء وقيل‏:‏ معناه نجتهد ونبالغ في الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ معناه نلتعن والابتهال الالتعان يقال عليه بهلة الله أي لعنة الله ‏{‏فنجعل لعنة الله على الكاذبين‏}‏ يعني منا ومنكم في أمر عيسى قال المفسرون‏:‏ لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا‏:‏ حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً فلما خلا بعضهم ببعض قالوا للعاقب‏:‏ وكان كبيرهم وصاحب رأيهم ما ترى يا عبد المسيح قال لقد عرفتم ما معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل، ولئن فعلتم ذلك لتهلكم فإن أبيتم إلاّ الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي يمشي خلفها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم‏:‏ «إذا دعوت فأمنوا» فلم رآهم أسقف نجران قال‏:‏ يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل أهله لأزاله من مكانه فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نباهلك وأن نتركك على دينك وتتركنا على ديننا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا ذلك‏.‏ فقال‏:‏ إني أناجز فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على ما لا تغزونا ولا تخفينا ولا تردنا عن ديننا وأن نؤدي إليك في كل سنة ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب زاد في رواية وثلاثاً وثلاثين درعاً عادية وثلاثة وثلاثين بعيراً وأربعاً وثلاثين فرساً غازية فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال‏:‏

«والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا» فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ لتبيين الصادق من الكاذب منه ومن خصمه وذلك يختص به وبمن يباهله فما معنى ضم الأبناء والنساء في المباهلة‏.‏ قلت ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه، فلذلك ضمهم في المباهلة، ولم يقتصر على تعريض نفسه لذلك وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك استئصال إن تمت المباهلة، وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلب وربما فداهم الرجل بنفسه، وحارب دونهم حتى يقتل وإنما يقتل وإنما قدمهم في الذكر على النفس لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وفيه دليل قاطع وبرهان واضح على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا‏}‏ يعني الذي قص عليك يا محمد من خبر عيسى عليه السلام وأنه عبدالله ورسوله ‏{‏لهو القصص الحق‏}‏ وأصله من القصص وهو تتبع الأثر والقصص الخبر الذي تتتابع فيه المعاني ‏{‏وما من إله إلاّ الله‏}‏ إنما دخلت من لتوكيد النفي والمعنى أن عيسى ليس بإله كما زعمت النصارى ففيه رد عليهم ونفي جميع من ادّعى من المشركين أنهم آلهة وإثبات الإلهية لله تعالى وحده لا شريك له في الإلهية ‏{‏وإن الله لهو العزيز‏}‏ أي الغالب المنتقم ممن عصاه وخالف أمره وادّعى معه إلهاً أخر ‏{‏الحكيم‏}‏ يعني في تدبيره وفيه رد على النصارى لأن عيسى لم يكن كذلك ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يعني فإن أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوه ‏{‏فإن الله عليم بالمفسدين‏}‏ أي الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غيره وفيه وعيد وتهديد لهم‏.‏ قوله لهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى الكلمة سواء بيننا وبينكم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما قدم وف نجران المدينة اجتمعوا باليهود واختصموا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه وأولى الناس به وقالت اليهود‏:‏ بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلا الفريقين برئ من إبراهيم ودينه بل كان حنيفاً مسلماً وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» فقالت اليهود‏:‏ ما تريد إلاّ أن نتخذك ربما كما اتخذت النصارى عيسى رباً‏.‏ وقالت النصارى‏:‏ يا محمد ما تريد إلاّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا‏}‏ أي هلموا إلى كلمة يعني فيها إنصاف ولا ميل فيها لأحد على صاحبه، والعرب تسمي كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر وشرح كلمة وسواء أي عدل لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن وتفسير الكلمة قوله‏:‏ ‏{‏ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله‏}‏ وذلك أن النصارى عبدوا غير الله وهو المسيح وأشركوا به وهو قولهم أب وابن وروح القدس فجعلوا الواحد ثلاثة واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وذلك أنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الشرك ويسجدون لهم فهذا معنى اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فثبت أن النصارى قد جمعوا بين هذه الثلاثة أشياء ومعنى الآية قل‏:‏ يا محمد لليهود والنصارى هلموا إلى أمر عدل نصف وهو أن لا نقول عزير ابن الله ولا نقول المسيح ابن الله لأن كل واحد منهما بشر مخلوق مثلنا ولا نطيع أحبارنا ورهباننا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع ولا يسجد بعضنا لبعض لأن السجود لغير الله حرام فلا نسجد لغير الله وقيل‏:‏ معناه ولا نطيع أحداً في معصية الله ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يعني فإن أعرضوا عما أمرتهم به ‏{‏فقولوا‏}‏ أنتم لهؤلاء ‏{‏اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ أي مخلصون بالتوحيد لله والعبادة له‏.‏

‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم اليرسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون لفظ الحديث أحد روايات البخاري، وقد أخرجه بأطول من هذا وفيه زيادة قوله اليريسيين وفي رواية الأريسيين والأريس الأكار وهو الزراع والفلاح وقيل‏:‏ هم أتباع عبدالله بن أريس رجل كان في الزمن الأول بعثه الله فخالفه قومه وقيل هم الأروسيون وهم نصارى أتباع عبدالله بن أروس وهم الأروسة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الأريسون بضم الهمزة وهم الملوك الذين يخالفون أنبياءهم وقيل‏:‏ هم المتبخترون وقيل‏:‏ هم اليهود والنصارى الذين صددتهم عن الإسلام واتبعوك على كفرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران وأحبار اليهود فتنازعوا عنده فقالت الأحبار‏:‏ ما كان إبراهيم إلاّ يهودياً‏.‏ وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلاّ نصرانياً فأنزل الله فيهم يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم‏؟‏ ‏{‏وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بعده‏}‏ ومعنى الآية اليهود والنصارى لما اختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إبراهيم عليه السلام وادّعت كل طائفة أنه كان منهم وعلى دينهم فبرأ الله عز وجل إبراهيم مما ادعوا فيه وأخبر أن اليهودية والنصرانية إنما حدثا بعد نزول التوراة والإنجيل وإنما نزلا بعد إبراهيم بزمان طويل فكان بين إبراهيم وبين موسى ونزول التوراة عليه خمسمائة سنة وخمسة وسبعون سنة وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة وعشرون سنة وأورد على هذا التأويل أن الإسلام أيضاً إنما حدث بعد إبراهيم وموسى وعيسى بزمان طويل، وكذلك إنزال القرآن إنما نزل بعد التوراة والإنجيل فكيف يصح ما ادعيتم في إبراهيم أنه كان حنيفاً مسلماً وأجيب عنه بأن الله عز وجل أخبر في القرآن بأن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً فصح وثبت ما ادعاه المسلمون وبطل ما ادعاه اليهود والنصارى‏.‏ وهو قوله تعالى ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ يعني بطلان قولكم يا معشر اليهود والنصارى حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال ‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ ها للتنبيه وهو موضع النداء يعني يا هؤلاء والمراد بهم أهل الكتابين يعني ما معشر اليهود والنصارى ‏{‏حاججتم‏}‏ أي جادلتم وخاصمتم ‏{‏فيما لكم به علم‏}‏ يعني فيما وجدتم في كتبكم وأنزل عليكم بيانه في أمر موسى وعيسى، وادعيتم أنكم على دينهما وقد أنزلت التوراة والإنجيل عليكم ‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏}‏ يعني أنه ليس في كتابكم أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ‏{‏والله يعلم‏}‏ يعني ما كان إبراهيم عليه من الدين ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏ يعني ذلك والمعنى ذلك والمعنى وأنتم جاهلون بما تقولون في إبراهيم ثم برأه الله عز وجل عما قالوا فيه واعلمهم أن إبراهيم برئ من دينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً‏}‏ يعني لم يكن كما ادعوه فيه، ثم وصفه بما كان عليه من الدين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كان حنيفاً مسلماً‏}‏ يعني مائلاً عن الأديان إلى الدين المستقيم وهو الإسلام وقيل‏:‏ الحنيف الذي يوجد ويختتن ويضحي ويستقبل الكعبة في صلاته وهو أحسن الأديان وأسهلها وأحبها إلى الله عز وجل ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ يعني الذين يعبدون الأصنام وقيل‏:‏ فيه تعريض بكون النصارى مشركين لقولهم بإلهية المسيح وعبادتهم له‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم‏}‏ يعني أخصهم به وأقربهم منه ‏{‏للذين اتبعوه‏}‏ يعني الذين كانوا في زمانه وآمنوا به واتبعوا شريعته ‏{‏وهذا النبي‏}‏ يعني محمداً صلى الله صلى الله عليه ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ يعني هذه الأمة الإسلامية ‏{‏والله ولي المؤمنين‏}‏ يعني بالنصر والمعونة عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه‏}‏ وهذا النبي والذين آمنوا الله ولي المؤمنين أخرجه الترمذي وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة قال‏:‏ لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر وما كان اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا‏:‏ إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالاً وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهما الهدايا الأدم وغيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولأصحابك محبون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج يزعم انه رسول الله ولم يتابعه احد منا إلاّ السفهاء وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد فقتلهم الجوع والعطش، فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكم‏.‏ قال‏:‏ وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك قال‏:‏ فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله تعالى فقال النجاشي‏:‏ مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي‏:‏ نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال‏:‏ ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به الملك فساءهما ذلك ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص‏:‏ ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدا لك فقال لهما النجاشي‏:‏ ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية اليت يحييني بها من أتاني من الآفاق نسجد لله الذي خلقك وملكك إنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبياً صادقاً فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل‏.‏

قال‏:‏ أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله‏؟‏ قال جعفر أنا قال فتكلم؛ قال‏:‏ إنك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وإنما أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشي‏:‏ سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار‏؟‏ فإن كنا عبيداً قد أبقينا من أربابنا فردنا عليهم فقال النجاشي أبعيد هم أم أحرار‏؟‏ فقال بل أحرار كرام فقال النجاشي‏:‏ نجوا من العبودية فقال جعفر‏:‏ سلهما هل أرقنا دماً بغير حق فيقتص منا فقال عمرو‏:‏ لا ولا قطرة قال جعفر‏:‏ سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي‏:‏ إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه فقال عمرو‏:‏ لا ولا قيراط فقال النجاشي‏:‏ فما تطلبون منهم قال كنا وإياهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك وابتعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فقال النجاشي‏:‏ وما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه فقال جعفر‏:‏ أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول، وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له فقال النجاشي‏:‏ يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي‏:‏ أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً مرسلاً قالوا‏:‏ اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال‏:‏ من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي‏.‏ فقال النجاشي لجعفر‏:‏ ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه‏؟‏ فقال‏:‏ يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده ولا شريك له فقال له‏:‏ اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا‏:‏ زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال‏:‏ إنهم يشتمون عيسى وأمه فقال النجاشي‏:‏ فما تقولون في عيسى وأمه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما بقذى العين وقال‏:‏ والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا‏.‏

ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال‏:‏ اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم غرم ثم قال‏:‏ أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم فقال عمرو‏:‏ يا نجاشي ومن حزب إبراهيم‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال‏:‏ إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر‏:‏ فانصرفنا فكنا في خير جوار وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو في المدينة‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي، والذين آمنوا والله ولي المؤمنين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 72‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم‏}‏ نزلت في معاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت فيهم ودت طائفة أي تمنت جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود لو يضلونكم يعني عن دينكم ويردونكم إلى الكفر ‏{‏وما يضلون إلاّ أنفسهم‏}‏ لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين ‏{‏وما يشعرون‏}‏ يعني أن وبال الإضلال يعود عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم وتمني إضلال المسلمين وما يقدرون على ذلك إنما يضلون أمثالهم وأتباعهم وأشياعهم ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ الخطاب لليهود ‏{‏لم تكفرون بآيات الله‏}‏ يعني القرآن‏.‏ وقيل المراد بآيات الله الواردة في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وسبب كفرهم بالتوراة والإنجيل على هذا القول هو تحريفهم وتبديلهم ما فيها من بيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته والبشارة بنوبته لأنهم ينكرون ذلك، ‏{‏وأنتم تشهدون‏}‏ يعني أن نعته وصفته مذكور في التوراة والإنجيل، وذلك أن أحبار اليهود كانوا يكتمون الناس نعته وصفته فإذا خلا بعضهم ببعض أظهروا ذلك فيما بينهم وشهدوا أنه حق يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل، وذلك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعلمون بقلوبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله وأن دينه حق، وكانوا ينكرون ذلك بألسنتهم وكانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات والتشكيكات، وذلك أن الساعي في إخفاء الحق لا يقدر على ذلك إلاّ بهذه الأمور فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تلبسون الحق بالباطل‏}‏ معناه تحريف التوراة وتبديلها فيخلطون المحرف الذي كتبوه بأيديهم بالحق المنزل وقيل هو خلط الإسلام باليهودية والنصرانية وذلك أنهم تواطؤوا على إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره، والمراد بذلك تشكيك الناس وقيل إنهم كانوا يقولون‏:‏ إن محمداً صلى الله عليه وسلم معترف بصحة نبوة موسى وإنه حق ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى لا ينسخ فهذا من تلبيساتهم على الناس ‏{‏وتكتمون الحق‏}‏ يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ يعني أنه رسول من عند الله وأن دينه حق وإنما كتمتم الحق عناداً وحسداً وأنتم تعلمون ما تستحقون على كتمان الحق من العقاب‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره‏}‏ وهذا نوع آخر من تلبيسات اليهود، وقيل تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة فقال بعضهم لبعض‏:‏ ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون اعتقاد القلب ثم اكفروا آخر النهار وقولوا‏:‏ إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا أن محمداً ليس هو بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه فإذا فعلتكم ذلك شك أصحاب محمد في دينه واتهموه وقالوا‏:‏ إنهم أهل الكتاب وأعلم به منا فيرجعون عن دينهم وقيل‏:‏ هذا شأن القبلة وذلك أنه لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد في أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يرجعون فيقولون‏:‏ هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على سرهم وأنزل هذه الآية، ووجه النهار أوله والوجه مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه وأنشدوا في معناه‏.‏

من كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار

وقوله ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ يعني عنه أي إنا ألقينا هذه الشبهة لعلهم يشكون في دينهم فيرجعون عنه ولما دبروا هذه الحيلة أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بها فلم تتم لهم ولم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلام من الله تعالى لكان ربما أثر ذلك في قلوب بعض من كان في إيمانه ضعف

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم‏}‏ هذا متصل بالأول وهو من قول اليهود يقول بعضهم لبعض ولا تؤمنوا أي ولا تصدقوا إلاّ لمن تبع دينكم أي وافق ملتكم التي أنتم عليها وهي اليهودية‏.‏ واللام في لمن صلة كقوله ردف لكم أي ردفكم ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ أي إن الدين دين الله والبيان بيانه، وهذا خبر من الله تعالى ثم اختلفوا فيه فمنهم من قال‏:‏ هذا كلام معترض بين كلامين وما بعده متصل بالكلام الأول وهو إخبار من الله تعالى ثم اختلفوا فيه فمنهم من قال‏:‏ هذا كلام معترض بين كلامين وما وما بعده متصل بالكلام الأول وهو إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض ومعنى الاية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات من فلق البحر وإنزال المن والسلوى عليكم وغير ذلك من الكرامات، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح ديناً منهم فلما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك قال في أثناء ذلك أن الهدى هدى الله، والمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار ديناً بحكم الله وأمره فإذا أمر بدين آخر وجب اتباعه والانقياد لحكمه لأنه هو الذي هدى إليه أمر به وقيل‏:‏ معناه قل لهم‏:‏ يا محمد إن الهدى هدى الله وقد جئتكم به ولن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف وقرأ الحسن والأعمش إن يؤتى بكسر الألف فيكون قول اليهود تاماً عند قوله إلاّ لمن تبع دينكم وما بعده من قول الله تعالى والمعنى قل يا محمد إن الهدى هدى الله ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏ وتكون أن معنى الجحد أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا محمد من الدين والهدى ‏{‏أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ يعني إلاّ أن يحاجوكم أي اليهود بالباطل فيقولوا‏:‏ نحن أفضل منكم وقوله عند ربكم أي عند فعل ربكم قيل‏:‏ أوفي قوله أو يحاجوكم بمعنى حتى ومعنى الآية ما أعطى الله أحداً مثل ما أعطيتم يا أمة محمد بن الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم وقرأ ابن كثير آن يؤتى بالمد على الاستفهام، وحينئذٍ يكون في الكلام اختصار تقديره أني يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة فتحسدونه ولا تؤمنون به هذا قول قتادة والربيع قالا‏:‏ هذا من قول الله تعالى قل يا محمد إن الهدى هدى الله ألأن أنزل كتاباً مثل كتابكم وبعث نبياً مثل نبيكم حسدتموه وكفرتم به قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏.‏ وقوله‏:‏ أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين وتكون أو بمعنى إن لأنهما حرفا شرط وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر‏.‏

والمعنى وأن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم قل‏:‏ يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه ويحتمل أن يكون الجميع خطاباً للمؤمنين ويكون نظم الاية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين، فإن حسدوكم فقل إن الفضل بيد الله، فإن حاجوكم فقل إن الهدى هدى الله ويحتمل أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله لعلهم يرجعون وقوله‏:‏ ولا تؤمنوا من كلام الله تعالى ثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبس اليهود وتزويرهم في دينهم يقول الله عز وجل‏:‏ ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم أو يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏.‏ فتكون الاية كلها خطاباً للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا ولا يشكوا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الفضل‏}‏ يعني قل لهم يا محمد إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام ‏{‏بيد الله‏}‏ أي أنه مالك له وقادر عليه دونكم ودون سائر خلقه ‏{‏يؤتيه من يشاء‏}‏ يعني الفضل الذي هو دين الإسلام يعطيه من يشاء من عباده ويوفق له من أراد من خلقه وفيه تكذيب لليهود في قولهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فقال الله تعالى رداً عليهم قل لهم ليس ذلك إليهم وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأصل الفضل في اللغة الزيادة وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير ‏{‏والله واسع‏}‏ أي ذو سعة يتفضل على من يشاء ‏{‏عليم‏}‏ أي بمن يتفضل عليه وهو للفضل أهل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏يختص برحمته‏}‏ يعني بنبوته ورسالته وقيل بدينه الذي هو الإسلام وقيل بالقرآن ‏{‏من يشاء‏}‏ يعني من خلقه وفيه دليل على أن النبوة لا تحصل إلاّ بالاختصاص والتفضل لا بالاستحقاق لأنه تعالى جعلها من باب الاختصاص وللفاعل أن يفعل ما يشاء إلى من يشاء بغير استحقاق ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏}‏ الآية نزلت في اليهود أخبر الله عز وجل أن فيهم أمانة وخيانة وقسمهم قسمين، والقنطار عبارة عن المال الكثير والدينار عبارة عن المال القليل يقول منهم من يؤد الأمانة وإن كثرت مثل عبدالله بن سلام وأصحابه ومنهم من لا يؤديها وإن قلت‏:‏ وهم كفار أهل الكتاب مثل كعب بن الأشرف وأصحابه قال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ أودع رجل من قريش عبدالله بن سلام ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏}‏ يعني فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش ديناراً فخانه وجحده ولم يؤده إليه‏.‏ وقيل‏:‏ أهل الأمانة هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود لأن مذهبهم أن يحل قتل من خالفهم في أمر الدين وأخذ ماله بأي طريق كان ‏{‏إلاّ ما دمت عليه قائماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد تقوم عليه وتطالبه بالإلحاح والخصومة والملازمة وقيل‏:‏ معناه إلاّ مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه متوكلاً عليه بالمطالبة له والتعنيف بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه‏.‏ وقيل أراد أنه إن أودعته شيئاً ثم استرجعته منه في الحال وأنت قائم على رأسه لم تفارقه رده عليك‏.‏ وإن أخرت استرجاع ما أودعته وأنكره ولم يرده عليك ‏{‏ذلك‏}‏ أي سبب ذلك الاستحلال والخيانة ‏{‏بأنهم قالوا‏}‏ يعني اليهود ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ يعني أنهم يقولون ليس علينا إثم ولا حرج في أخذ مال العرب وذلك أن اليهود قالوا‏:‏ أموال العرب حلال لنا إنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم وقيل‏:‏ إن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا وقيل إنهم قالوا‏:‏ إن الأموال كلها كانت لنا فما في يد العرب فهو لنا، وإنما هم ظلمونا وغصبوها منا فلا سبيل علينا في أخذها منهم بأي طريق كان وقيل إن اليهود كانوا يبايعون رجالاً من المسلمين في الجاهلية‏.‏ فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا‏:‏ ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فأكذبهم الله تعالى فقال ‏{‏ويقولون على الله الكذب‏}‏ يعين اليهود ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ يعني أنهم كاذبون ثم إنه تعالى رد على اليهود قولهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏بلى‏}‏ أي ليس الأمر كما قالوا بل عليهم سبيل ولفظة بلى لمجرد نفي ما قبلها فعلى هذا يحسن الوقوف عليها ثم يبتدئ من أوفى أي ولكن ‏{‏من أوفى بعهده‏}‏ أي بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذي أنزل عليه وبأداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها وقيل الهاء في قوله بعهده راجعة إلى الموفى ‏{‏واتقى‏}‏ يعني الكفر والخيانة ونقض العهد ‏{‏فإن الله يحب المتقين‏}‏ يعني الذين يتقون الشرك‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عبدالله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر»، وفي رواية «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ قال عكرمة نزلت هذه الآية في أحبار اليهود ورؤسائهم أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب الذين كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم الرشا والمآكل التي كانوا يأخذونها من أتباعهم وسفلتهم وقيل نزلت في ادعاء اليهود الذين قالوا‏:‏ إنه ليس علينا في الأميين سبيل وكتبوا ذلك بأيديهم وحلفوا أنه من عند الله وقيل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان» قال عبدالله‏:‏ ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقة من كتاب الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ إلى آخر الآية وفي رواية‏:‏ «قال من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ الآية‏.‏ فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال‏:‏ ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا كذا وكذا فقال صدق فيَّ نزلت كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «شاهداك أو يمينه» قلت إنه إذا يحلف لا يبالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان»

ونزلت ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا‏:‏ إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي‏.‏ وقيل نزلت هذه الآية في رجل أقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ‏(‏خ‏)‏ عن عبدالله بن أبي أوفى‏:‏ «أن رجل أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وقيل الأقرب حمل الآية على الكل فقوله تعالى ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله‏}‏ يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه العهود والمواثيق المأخوذة من جهة الرسل ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه من عهد وميثاق فكل ذلك من عهد الله الذي يجب الوفاء به‏.‏ ومعنى إن الذين يشترون يستبدلون بعهد الله يعني الأمانة وأيمانهم يعني الكاذبة ثمناً قليلاً يعني شيئاً يسيرا من حطام الدنيا، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من يعطي، والمأخوذ ثمناً للآخر فهذا معنى الشراء ‏{‏أولئك‏}‏ يعني من هذه صفتهم ‏{‏لا خلاق لهم في الآخرة‏}‏ أي لا نصيب لهم في الآخرة ونعيمها وجميع منافعها ‏{‏ولا يكلمهم الله‏}‏ يعني كلاماً يسرهم به أو ينفعهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى الغضب ‏{‏ولا ينظر إليهم يوم القيامة‏}‏ أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا ينيلهم خيراً ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ أي ولا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم بجميل ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ يعني في الآخرة‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏» ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏:‏ رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك «، ‏(‏م‏)‏ عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال‏:‏ فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقلت‏:‏ خابوا وخسروا من هم يا رسول الله‏؟‏ قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب «» وللنسائي «المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقالوا‏:‏ يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً قال وإن كان قضيباً من أراك «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن منهم‏}‏ يعني من اليهود ‏{‏لفريقاً‏}‏ يعني طائفاً وجماعة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر ‏{‏يلوون‏}‏ أي يعطفون ويميلون، وأصل اللي الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها ‏{‏ألسنتهم بالكتاب‏}‏ يعني بالتحريف والتغيير والتبديل وتحريف الكلام تقليبه عن وجهه لأن المحرف يلوي لسانه عن سنن الصواب بما يأتي به من عند نفسه قال الواحدي‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنى يلوون بألسنتهم الكتاب لأنهم يحرفون الكتاب عما هو عليه بألسنتهم فيأتون به على القلب ونقل الإمام فخر الدين عن القفال قال يلوون ألسنتهم معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية فلما فعلوا ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله يلوون ألسنتهم بالكتاب وقيل إنهم غير واصفة النبي صلى الله عليه وسلم من التوراة وبدلوها، وآية الرجم وغير ذلك مما بدلوا وغيروا ‏{‏لتحسبوه من الكتاب‏}‏ يعني لتظنوا أن الذي حرفوه وبدلوه من الكتاب الذي أنزله الله أنبيائه ‏{‏وما هو من الكتاب‏}‏ يعني ذلك الذي يزعمون أنه من الكتاب ما هو منه ‏{‏ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله‏}‏ يعني الذي يقولونه ويغيرونه، وإنما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى لأجل التأكيد ‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏ يعني أنهم كاذبون‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا في كتاب الله ما ليس فيه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة‏}‏ قيل إن نصارى نجران قالوا إن عيسى أمرهم ان يتخذوه رباً فقال الله تعالى رداً عليهم‏:‏ ما كان لبشر يعني عيسى عليه السلام أن يؤتيه الله الكتاب يعني الإنجيل‏.‏ وقال ابن عباس في قوله تعالى ما كان لبشر يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه الله الكتاب يعني القرآن وذلك أن أباً رافع من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا‏:‏ يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك رباً‏؟‏ قال معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله وما بذلك أمرني الله، وما بذلك بعثني فأنزل الله هذه الآية ما كان لبشر أي ما ينبغي لبشر وهو جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط ويوضع موضع الواحد والجمع أن يؤتيه الله الكتاب والحكم يعني الفهم والعلم، وقيل هو إمضاء الحكم من الله تعالى والنبوة يعني المنزلة الرفيعة ‏{‏ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏ ومعنى الآية أنه لا يجتمع لرجل نبوة مع القول للناس كونوا عباداً لي من دون الله وكيف يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله وقد أتاه الله ما أتاه من الكتاب والحكم والنبوة وذلك أن الأنبياء موصون بصفات لا يحصل معها ادعاء الإلهية والربوبية منها إن الله تعالى أتاهم الكتب السماوية، ومنها إيتاء النبوة ولا يكون إلاّ بعد كمال العلم وكل هذه تمنع من هذه الدعوى ‏{‏ولكن كونوا ربانيين‏}‏ يعني ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، واختلفوا في معنى الرباني فقال ابن عباس‏:‏ معناه كونوا فقهاء علماء وعنه كونوا فقهاء معلمين وقيل معناه حكماء حكماء، وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم وكباره وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي وقيل الرباني الذي جمع بين علم البصيرة والعلم بسياسة الناس، ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما قال محمد بن الحنفية‏:‏ اليوم مات رباني هذه الأمة قال سيبوية‏:‏ الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته وزيادة الألف والنون فيه دلالة على كمال هذه الصفة وقال المبرد‏:‏ الربانيون أرباب العلم واحدهم ربان وهو الذي يربى العلم ويربي الناس أي يعلمهم وينصحهم والألف والنون للمبالغة فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وطاعته، وعلى قول المبرد الرباني مأخوذ من التربية‏.‏

وقيل الربانيون هم ولاة الأمر والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التأويل لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء ومعلمين الناس الخير ومواظبين على طاعة الله وعبادته‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أحسب أن هذه الكلمة ليست عربية إنما هي عبرانية أو سريانية وسواء كانت عربية أو عبرانية فهي تدل على الذي علم وعمل بما علم وعلم الناس طريق الخير‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون‏}‏ أي كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين بسبب دراستكم الكتاب، فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بالعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع علمه وخاب سعيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا يأمركم‏}‏ قرئ بنصب الراء بنصب الراء عطفاً على قوله ثم يقول‏:‏ فيكون مردوداً على البشر وقيل على إضمار أن أي ولا أن يأمركم، وقرئ برفع الراء على الاستئناف وهو ظاهر ومعناه ولا يأمركم الله وقيل لا يأمركم محمد صلى الله عليه وسلم وقيل ولا يأمركم عيسى وقيل ولا يأمركم الأنبياء ‏{‏أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً‏}‏ يعني كفعل قريش والصابئين حيث قالوا الملائكة بنات الله وكفعل اليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح والعزير ما قالوا وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله عز وجل من أهل الكتاب لم يحك عنهم إلاّ عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير، فلهذا المعنى خصهم بالذكر ‏{‏أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏}‏ إنما قاله على طريق التعجب والإنكار، يعني لا يقول هذا ولا يفعله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ موضع إذ نصب والمعنى واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله‏.‏ وقال الطبري‏:‏ معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله يعني حين أخذ الله ميثاق النبيين‏.‏ وأصل الميثاق في اللغة عقد يؤكد بيمين، ومعنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه مأخوذ من الأنبياء‏.‏ والثاني‏:‏ أنه مأخوذ لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الاية، فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضاً، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس وقيل‏:‏ إنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم خاصة وهو قول علي وابن عباس وقتادة والسدي فعلى هذا القول اختلفوا، فقيل إنما أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين ويدل عليه قوله ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين، وإنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون منا، وقيل أخذ الله ميثاق على النبيين وأممهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع وهو قول ابن عباس قال علي بن أبي طالب‏:‏ ما بعث الله نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه وقيل إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد والميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمداً أن يؤمنوا به وينصروه وهذا قول كثير من المفسرين وقوله ‏{‏لما آتيتكم من كتاب وحكمة‏}‏ قرئ بفتح اللام من لما وبكسرها مع التخفيف في القراءتين فمن قرأ بفتح اللام قال‏:‏ معنى الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول يعني ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة لتؤمنن به للذي عندكم في التوراة من ذكره ومن قرأ بكسر اللام جعل قوله لتؤمنن به من أخذ الميثاق كما يقال أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف فكان معنى الآية وإذ استحلف الله النبيين للذي أتاهم من كتاب وحكمة متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به ولينصرنه وقوله ‏{‏ثم جاءكم رسول‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏مصدق لما معكم‏}‏ وذلك أن الله وصفه في كتب الأنبياء المتقدمة وشرح فيها أحواله فإذا جاءت صفاته وأحواله مطابقة في كتبهم المنزلة فقد صار مصدقاً لها فيجب الإيمان به والانقياد لقوله ولام قوله ‏{‏لتؤمنن به‏}‏ لام القسم تقديره والله لتؤمنن به ‏{‏ولتنصرنه‏}‏ قال البغوي‏:‏ قال الله عز وجل للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح أخذ عليهم الميثاق في أمر محد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري‏}‏ الآية‏.‏

وقال الإمام فخر الدين‏:‏ يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد من الله واجب، فإذا جاء رسول وظهرت المعجزات الدالة على صدقة، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه بتقرير هذا الدليل في عقولهم فهذا هو المراد من الميثاق ‏{‏قال اأقرتم‏}‏ يعني قال الله تعالى‏:‏ أأقرتم فإن فسرنا أن أخذ الميثاق كان من النبيين؛ كان معناه قال الله تعالى للنبيين‏:‏ أأقرتم بألإيمان به والنصر له وإن فسرنا بأن أخذ الميثاق كان على الأمم كان معناه قال كل نبي لأمته أأقرتم وذلك لأنه تعالى أضاف اخذ الميثاق إلى نفسه وأن كان النبييون أخذوه على الأمم فلذلك طلب هذا الإقرار وأضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا الميثاق وتأكيده على الأمم وطالبوهم بالقبول وأكدوا ذلك بالإشهاد ‏{‏وأخذتم على ذلكم إصري‏}‏ أي عهدي والإصر العهد الثقيل وقيل سمي العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد‏.‏ ‏{‏قالوا أقررنا‏}‏ أي قال النبيون‏:‏ أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك ‏{‏قال فاشهدوا‏}‏ يعني قال الله عز وجل للنبيين‏:‏ فاشهدوا يعني أنتم على أنفسكم وقيل‏:‏ على أممكم وأتباعكم الذين أخذتم الميثاق وقيل‏:‏ قال الله للملائكة فاشهدوا فهو كناية عن غير مذكور، وقيل‏:‏ معناه فاعلموا وبينوا لأن أصل الشهادة العلم والبيان ‏{‏وأنا معكم من الشاهدين‏}‏ يعني قال الله يا معشر الأنبياء وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى أتباعكم أو قال للملائكة وأنا معكم من الشاهدين عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فمن تولى‏}‏ أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏بعد ذلك‏}‏ الإقرار ‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏}‏ أي الخارجون عن الإيمان والطاعة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أفغير دين الله يبغون‏}‏ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل فريق منهم أنه على دين إبراهيم عليه السلام فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيهم» فغضبوا وقالوا‏:‏ لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله أفغير دين الله؛ الهمزة للاستفهام والمراد منه الإنكار والتوبيخ يعني أفبعد أخذ الميثاق عليهم ووضوح الدلائل لم أن دين إبراهيم هو دين الله الإسلام‏.‏ تبغون قرئ بالتاء على خطاب الحاضر أي أفغير دين الله تطلبون ما معشر اليهود والنصارى وقرئ بالياء على الغيبة رداً على قوله فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ‏{‏وله أسلم‏}‏ أي خضع وانقاد ‏{‏من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏ الطوع الانقياد والاتباع بسهولة والكره ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس‏.‏ واختلفوا في معنى قوله طوعاً وكرهاً فقيل‏:‏ أسلم أهل السموات طوعاً وأسلم بعض أهل الأرض طوعاً وبعضهم كرهاً من خوف القتل والسبي، وقيل‏:‏ أسلم المؤمن طوعاً وانقاد الكافر كرهاً، وقيل هذا في يوم أخذ الميثاق حيث قال‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى فمن سبقت له السعادة قال ذلك طوعاً، ومن سبقت له الشقاوة قال ذلك كرهاً‏.‏ وقيل‏:‏ أسلم المؤمن طوعاً فنفعه إسلامه يوم القيامة والكافر يسلم كرهاً عند الموت في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك في القيامة وقيل إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على الله في مراده فأما المسلم فينقاد لله فيما أمره أو نهاه عنه طوعاً وأما الكافر فينقاد لله كرهاً في جميع ما يقتضي عليه ولا يمكنه دفع قضائه وقدره عنه ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ قرئ بالتاء والياء والمعنى أن مرجع الخلق كلهم إلى يوم القيامة ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل آمنا بالله‏}‏ لما ذكر الله عز وجل في الآية المتقدمة أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقاً لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم فقال تعالى‏:‏ قل آمنا بالله وإنما وحد الضمير في قوله قل وجمع في قوله آمنا بالله لأنه خاطبه بلفظ الواحد ليدل هذا الكلام على أنه لا يبلغ هذا التكليف عن الله تعالى إلى الخلق إلا هو‏.‏ ثم قال‏:‏ آمنا بالله تنبيهاً على أنه حيث قال هذا القول وافقه أصحابه فحسن الجمع في قوله آمنا، ومعنى الآية‏:‏ قل يا محمد صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا لا إله غيره ولا رب سواه وإنما قدم الإيمان بالله علىغيره لأنه الأصل ‏{‏وما أنزل علينا‏}‏ يعني وقل يا محمد وصدقنا أيضاً بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله وإنما قدم ذكر القرآن لأنه أشرف الكتب وأنه لم يحرف ولم يبدل وغيره حرف وبدل ‏{‏وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى‏}‏ إنما خص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بوجودهم ولم يختلفوا في نبوتهم، والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر وكانوا أنبياء ثم جمع جميع الأنبياء فقال ‏{‏والنبيون‏}‏ أي وما أوتي النبيون ‏{‏من ربهم لا نفرق بين أحد منهم‏}‏ وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون ببعض النبيين ويكفرون ببعض فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعن أمته أنه يؤمن بجميع الأنبياء‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم عدي أنزل في «هذه الآية بحرف الاستعلاء وفيما تقدم من مثلها في البقرة بحرف الانتهاء»‏.‏ قلت لوجود المعنيين جميعاً لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين وتارة بالمعنى الآخر ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ أي موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتنا‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه‏}‏ يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام وإن كل دين سواه غير مقبول عنده لأن الدين الصحيح ما يأمر الله به ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه ‏{‏وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ يعني الذين وقعوا في الخسارة وهو حرمان الثواب وحصول العقاب وروى ابن جرير الطبري عن عكرمة‏:‏ في قوله‏:‏ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه قالت اليهود فنحن مسلمون فقال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم ولله على الناس حج البيت فلم يحجوا‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم‏}‏ نزلت في اثني عشر رجلاً ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً منهم الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وحجوج بن الأسلت‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى وذلك أن اليهود كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يستفتحون به على الكفار ويقرون به ويقولون‏:‏ قد أظل زمان نبي مبعوث فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به بغياً وحسداً ومعنى كيف يهدي الله كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوماً كفروا أي جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم أي تصديقهم إياه وإقرارهم به وبما جاء به من عند ربه ‏{‏وشهدوا أن الرسول حق‏}‏ يعني بعد أن أقروا وشهدوا أن محمداً رسول الله إلى خلقه وأنه حق وصدق ‏{‏وجاءهم البينات‏}‏ يعني الحجج والبراهين والمعجزات الدالة على صحة نبوته التي بمثلها ثبتت النبوة ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي لا يوفقهم إلى الحق والصواب لما سبق في علمه تعالى أنهم ظالمون وقيل لا يهديهم في الآخرة إلى الجنة والثواب‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف قال في أول الاية كيف يهدي الله قوماً كفروا وقال في آخرها إلى الجنة والثواب‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف قال في أول الآية كيف يهدي الله قوماً كفروا وقال في آخرها والله لا يهدي القوم الظالمين وهذا تكرار‏؟‏ قلت‏:‏ ليس فيه تكرار لأن قوله كيف يهدي الله قوماً كفروا إنما هو مختص بأولئك المرتدين عن الإسلام ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في آخر الاية فقال‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ يعني جميع الكفار المرتدين عن الإسلام والكافر الأصلي وإنما سمي الكافر لأنه وضع العبادة في غير موضعها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 90‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك جزاؤهم‏}‏ يعني الذين كفروا بعد إيمانهم ‏{‏أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها‏}‏ أي في عذاب اللعنة وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة ‏{‏لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون‏}‏ أي لا يؤخرون عن وقت العذاب لا يؤخر عنهم من وقت إلى وقت ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ‏{‏إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك‏}‏ يعني من بعد ارتدادهم وكفرهم وذلك أل الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة‏؟‏ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصحلوا الله فبعث بها إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائباً وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته وحسن إسلامه ‏{‏وأصلحوا‏}‏ أي وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة فبيَّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ أي غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو وقيل‏:‏ غفور بإزالة العذاب رحيم بإعطاء الثواب‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم‏}‏ نزلت في اليهود وذلك أنهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى وغيره من أنبيائهم ثم ازدادوا كفراً يعني كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقيل نزلت في اليهود والنصارى وذلك أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم به قبل مبعثه لما ثبت عندهم من نعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفواً يعني ذنوباً في حال كفرهم‏.‏ وقيل نزلت في جميع الكفار وذلك أنهم أشركوا بالله بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ثم ازدادوا كفراً يعني بإقامتهم على كفرهم حتى هلكوا عليه، وقيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد ريب المنون وقيل نزلت في أحد عشر رجلاً من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام فلما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا على كفرهم بمكة وقالوا‏:‏ نقيم على الكفر ما بدا لنا ومى أردنا الرجعة ينزل فينا مثل ما نزل في الحارث فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ونزل فيمن مات منهم على كفره‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار‏}‏ الآية‏.‏ فإن قلت قد وعد الله قبول الحسن وعطاء وقتادة والسدي‏:‏ لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت وهو وقت الحشرجة لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن‏}‏

فإن الذي يموت على الكفر لا تقبل توبته كأنه قال إن اليهود أو الكفار أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ثم ماتوا على ذلك لن تقبل توبتهم وقال ابن عباس‏:‏ إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم وقال أبو العالية‏:‏ هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال للشرك ولم يتوبوا من الشرك فإن توبتهم في حال الشرك، غير مقبولة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لن تقبل توتبهم إذا ماتوا على الكفر وقال ابن جرير الطبري‏:‏ معنى لن تقبل توبتهم أي مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم لا من كفرهم لأن الله تعالى لما وعد أن يقبل التوبة عن عباده وأنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم‏}‏ علم أن المعنى الذين لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه فعلى هذا فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل منه توبة ما أقام على كفره لأن الله تعالى لا يقبل عمل مشرك ما أقام على شركه، فإذا تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله كما وصف نفسه غفور رحيم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولئك هم الضالون‏}‏ يعني هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً وهم الذين ضلوا عن سبيل الحق وأخطؤوا منهاجه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حباً في الإسلام فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم على الكفر، وقيل نزلت فيمن مات كافراً من جميع أصناف اليهود والنصارى وعبدة الأصنام، فالآية عامة في جميع من مات على الكفر ‏{‏فلن يقبل أحدكم ملء الأرض ذهباً‏}‏ أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ قيل معناه لو افتدى به والواو زائدة مقحمة وقيل الواو على حالها وفائدتها أنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً وقد مات على كفره لم ينفعه ذلك وكذا لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، وهذا آكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه‏.‏ فإن قلت الكافر لا يملك شيئاً في الآخرة فما وجه قوله فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً‏؟‏ قلت‏:‏ الكلام ورد على سبيل الفرض والتقدير والمعنى لو أن للكافر قدر ملء الأرض ذهباً يوم القيامة لبذله في تخليص نفسه من العذاب ولكن لا يقدر على شيء من ذلك وقيل معناه لو أن الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهباً ثم مات على كفره لم ينفعه ذلك لأن الطاعة مع الكفر غير مقبولة ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى من مات على الكفر ‏{‏لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين‏}‏ يعني مانعين يمنعونهم من العذاب ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك» لفظ مسلم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الجنة، وقيل‏:‏ البر هو التقوى، وقيل هو الطاعة وقيل معناه لن تنالوا حقيقة البر ولن تكونوا أبرار حتى تنفقوا مما تحبون وقيل معناه لن تنالوا بر الله وهو ثوابه وأصل البر التوسع في فعل الخير يقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ومن العبد الطاعة وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق لأنهما من الخير المتوسع فيه ‏(‏ق‏)‏ عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذي يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً»

‏(‏م‏)‏ عن النواس بن سمعان قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال‏:‏ «البر حسن الخلق والإثم ما حاك صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك فعلى هذا يكون المعنى عليكم بالأعمال الصالحة حتى تكونوا ابراراً وتدخلوا في زمرة الأبرار» ومن قال إن لفظ البر هو الجنة فقال معنى الآية لن تنالوا الثواب البر المؤدي إلى الجنة ‏{‏حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ يعني من جيد أموالكم أنفسها عندكم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ وقيل هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال‏:‏ يا رسول أي الصدقة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ «إن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا إلاّ وقد كان»، واختلفوا في هذا الإنفاق قال ابن عباس‏:‏ هو الزكاة المفروضة والمعنى لن تنالوا حتى تخرجوا زكاة أموالكم فعلى هذا القول قيل إن الآية منسوخة بآية الزكاة وفيه بعداً لأنه ترغيب في إخراج الزكاة وقال ابن عمر‏:‏ المراد بها سائر الصدقات وقال الحسن‏:‏ كل شيء أنفقه المسلم من مالك مما يبتغي به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة فإنه يدخل في قوله‏:‏ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً وكان أحب أمواله إليه بيرحا وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس‏:‏ فلما نزلت هذه الآية ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ وإن أحب أموالي إلي بيرحا وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بخ بخ ذلك مال رابح» أو قال ذلك مال رابح أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة‏:‏ افعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه قوله بخ بخ هي كلمة تقال عند المدح والرضا وتكريرها للمبالغة وهي مبنية على السكون فإذا وصلت جرب ونونت فقلت‏:‏ بخ بخ قوله‏:‏ مال رابح أي ذو ربح وفي الرواية الأخرى ذلك مال رايح بالياء معناه يروح عليك نفعه وثوابه وبيرحا اسم موضع بالمدينة وهو حائط كان لأبي طلحة‏.‏

وروي عن مجاهد قال‏:‏ كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فلما جاءت أعجبته فقال عمر إن الله عزّ وجلّ يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها عمر وعن حمزة بن عبدالله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خطرت على قلبه هذه الآية‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ قال عبدالله فذكرت ما أعطاني الله تعالى فما كان شيء أحب إليّ من فلانة فقلت هي حرة لوجه الله تعالى قال ولولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها وعن عمرو بن ديناء قال لما نزلت هذه الاية لن تنالوا البر حتى تنفوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سيل كان يحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تصدق بهذه يا رسول الله فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة فقال يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قد قبلت صدقتك» وفي رواية كأن زيداً أوجد في نفسه فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أما إن الله قد قبلها وروى أن أبا ذر نزل به ضيف فقال للراعي‏:‏ ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة فقال للراعي خنتني فقال الراعي وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوماً حاجتكم إليه فقال‏:‏ إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء‏}‏ يعني من أي شيء كان من طيب تحبونه أو من خبيث تكرهونه ‏{‏فإن الله به عليم‏}‏ أي يعلمه ويجازيكم به‏.‏